قوله تعالى:"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"الآية[الزمر:53].
الحاكم ج2 ص435: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل القاري حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا عبد الله بن إدريس حدثني محمد بن إسحاق قال: و أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر قال: كنا نقول ما لمفتتن توبة و ما الله بقابل منه شيئا، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أنزل فيهم: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم" و الآيات التي بعدها، قال عمر: فكتبتها بيدي في صحيفة و بعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام بن العاص: فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها فيه و أصوب و لا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها قال: فألقا الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا و فيما كنا نقول في أنفسنا و يقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بالمدينة.
قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه و أقره الذهبي.
الحديث أيضا أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (ج1 ص475)، و قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج6 ص61): رواه البزار و رجاله ثقات. هذا و قد تقدم بعض ما يتعلق بهذه الآية في سورة الفرقان. اهـ.
الثاني: الشيخ عبيد الجابري ـ حفظه الله تعالى ـ في كتابه:"إمداد القاري بشرح كتاب التفسير من صحيح البخاري"(ج3 ص354) قال:
296- [باب"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور ارحيم"]
ش: قلت ـ يعني الشيخ عبيد ـ: الآية"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم..."الآية
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة و غيرهم إلى التوبة و الإنابة و إخبار بأن الله تبارك و تعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها و رجع عنها و إن كانت مهما كانت و إن كثرت و كانت مثل زبد البحر.
قوله: "إن الله يغفر الذنوب جميعا...." الخ الآية، لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك و يرفعه و يجعل الرخاء مكان القنوط.
فائدة:
روى الطبراني من طريق الشعبي عن بشير بن شكل أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله:"الله لا إله إلا هو الحي القيوم".
و إن أجمع آية في القرآن بخير و شر:"إن الله يأمر بالعدل و الإحسان".
و إن أكثر آية في القرآن فرحا في سورة الزمر:"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله".
و إن أشد آية في كتاب الله تفويضا:"و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب" .ابن كثير(4/64).
و أعلم أن هذه الآية أرجأ آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا:
أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم و مزيد تبشيرهم.
ثم وصفهم بالاسراف في المعاصي و الاستكثار من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب أولى، و بفحوى الخطاب.
ثم جاء بما لا يبقى بعده شك و لا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال:"إن الله يغفر الذنوب" فـالألف و اللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده، [فهو في قوة: إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان]، إلا ما أخرجه النص القرآني و هو الشرك:"إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفر كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله:"جميعا" فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه الخالعين لثياب القنوط الرافدين لسوؤ الظن بمن لا يتعاظمه ذنب و لا يبخل بمغفرته و رحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم و ما أحسن ما علل سبحانه هذا الكلام قائلا إنه هو الغفور الرحيم، أي: كثير المغفرة و الرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما، فمن أبى هذا الفضل العظيم و العطاء الجسيم، و ظن أن تقنيط عباد الله و تيئيسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط و غلط أكبر الغلط، فإن التبشير و عدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز الذي سلكه رسوله صلى الله عليه و سلم كما صح عنه من قوله:"يسروا و لا تعسروا، و بشروا و لا تنفروا"اهـ. من تفسير الشوكاني.
تنبيه:
لا تعارض بين هذه الآية و بين قوله تعالى:"إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" و ذلك أن كل ذنب كائنا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له.
وصلى اللهم على افضل خلقك